ارسطو وبطريقة الاغريق الحوارية كان يقول: "ما الذي يحصل لكي تنشطر قطعة خشب صلبة الى شطرين؟؟ لأنها تلقت ضربة بفأس .. ولماذا انشطرت قطعة الخشب هذه بضربة فأس؟؟ لأن قطعة الخشب الصلبة لا يمكن ان تنشطر بضربة عصا من الخيزران.. فلكي تنشطر قطعة الخشب الصلبة يجب ان تتلقى ضربة بشيء صلب اولا.. وحاد ثانيا.. والفأس تمتلك هاتين الخاصيتين".. ارسطو يضعنا هنا امام بوادر مفهوم السببية المتعددة.. وهو المفهوم السائدة اليوم في العلوم الاجتماعية .
واحدة من الأشياء التي تصفعك وانت تقرأ التاريخ الإسلامي هو سذاجة مفهوم السببية فيها.. وانت عندما تقرأ احداث مهمة ومفصلية في التاريخ الإسلامي من مثل مقتل عثمان ابن عفان او معركة صِفّين وواقعة التحكيم التي تبعتها.. ستضحك على سذاجة مفهوم السببية فيها.. ومع ذلك يبقى حَدَث انهيار الحسن بن علي بعد "إستخلافه" في الكوفة هو الحدث الأكثر غرابة وفنطازية في التاريخ الإسلامي.. ومفهوم السببية فيه من أسخف ما قرأت في هذا الإطار.. فالسردية السائدة اليوم بخصوص هذا الحدث تنتقل من مبايعة الحسن في الكوفة.. الى تجيشه لجيش لمقاتلة معاوية.. و" تَبَخُْر" هذا الجيش في فوضى عارمة تم خلالها سرقة "بساط" الحسن وطعنه.. وأخيرا مصالحة ومبايعة معاوية.. كل ذلك بأقل من خمسة أسطر تقريبا!! وهذا الانتقال السريع من الشيء الى نقيضه مستحقر لكل منطق.. من هنا أهمية تفكيك هذا الحدث.
الطبري مثلا يعطينا اربع روايات بخصوص هذا الحدث.. الرواية الاولى تقول "واستخلف اهل العراق الحسن على الخلافة، وكان الحسن لا يرى القتال، ولكنه يريد ان يأخذ لنفسه ما استطاع من معاوية، ثم يدخل في الجماعة، وعرف الحسن ان قيس ابن سعد (قائد الجيش) لا يوافقه على رأيه، فنزعه وامر عبيد الله ابن عباس، فلما علم ابن عباس بالذي يريده الحسن كتب الى معاوية يسأله الأمان ويشترط لنفسه من الأموال التي أصابها، فشرط ذلك له معاوية. (وهنا مداخلة سريعة استعيرها من البارع فلهاوزن.. في كل مرة تقرأ عبارة "اهل العراق" في هذه الروايات افهم اهل الكوفة فقط)
الرواية الثانية تقول " بايع الناس الحسن بالخلافة، ثم خرج بالناس (لقتال معاوية) حتى نزل بالمدائن، وبعث قيس ابن سعد في مقدمته في اثنى عشر الفا، واقبل معاوية في اهل الشام حتى نزل مَسكِن، "فبينما الحسن في المدائن، اذ نادى مناد في العسكر: ألا ان قيس ابن سعد (قائد الجيش) قد قتل، فانفروا، فنفروا ونهبوا سرادق الحسن، حتى نازعوه بساطا كان تحته،....... فلما رأى الحسن تفرق الامر عنه، بعث الى معاوية يطلب الصلح ... فصالحه "على ان يأخذ من بيت مال الكوفة خمسة الاف الف واشياء اشترطها.
الرواية الثالثة تقول: " وكتب الحسن الى معاوية في الصلح وطلب الأمان".. ثم يقوم الحسن بإخبار الحسين وعبد الله ابن جعفر بمشروع المصالحة وطلب الامان فيعترض الحسين . فقال له الحسن: اسكت، فأنا اعلم منك بالأمر...... فكتب الحسن الى قيس ابن سعد وهو على مقدمته في اثنى عشر الفا يأمره بالدخول في طاعة معاوية.......".
اما الرواية الرابعة والأخيرة عند الطبري فهي تقول " بايع اهل العراق الحسن بالخلافة، فطفق يشترط عليهم الحسن: انكم سامعون مطيعون، تسالمون من سالمت، وتحاربون من حاربت، فارتاب اهل العراق في امرهم حين اشترط عليهم هذا الشرط، وقالوا: ما هذا لكم بصاحب، وما يريد هذا القتال، فلم يلبث الحسن بعد ما بايعوه الا قليلا حتى طُعن طعنة اشوته، فازداد لهم بغضاََ، وازداد منهم ذعراََ (!!!)، فكاتب معاوية وأرسل اليه بشروط، قال: ان اعطيتني هذا فانا سامع مطيع....."
اما البلاذري في أنساب الأشراف فهو يعطينا الرواية التالية:" لمّا بلغ أهل الكوفة بيعة الحسن أطاعوه وأحبّوه أشدّ من حبّهم لأبيه، واجتمع له خمسون ألفًا، فخرج بهم حتّى أتى المدائن، وسرَّح بين يديه قيس بن سعد في عشرين ألفًا، فنزل بمسكن، وأقبل معاوية من الشام في جيش. ثمّ إنّ الحسن خلا بأخيه الحسين فقال له: يا هذا إنّي نظرتُ في أمري فوجدتني لا أصل إلى الأمر حتّى يُقتل من أهل العراق والشام مَن لا أُحبّ أنْ أحتمل دمه، وقد رأيتُ أن أُسلّم الأمر إلى معاوية فأشاركُه في إحسانه ويكون عليه إساءته. فقال الحسين: أُنشِدُكَ الله أَنْ تَكُونَ أَوَّلَ مَنْ عابَ أَباكَ وَطَعَنَ عَلَيْهِ، وَرَغِبَ عَنْ أَمْرِهِ. فقال: إنّي لأرى ما تقول، ووالله لئن لم تتابعني لأشدَّنك في الحديد، فلا تزالُ فيه حتّى أفرغ من أمري. قال: فَشَأْنُكَ! فقام الحسن خطيبًا فذكر رأيه في الصلح والسلم لما كره من سفك الدماء، وإقامة الحرب، فوثب عليه أهلُ الكوفة وانتهبوا ماله، وحرّقوا سرادقه، وشتموه وعجّزوه، ثمّ انصرفوا عنه ولحقوا بالكوفة.
وهنا تنتابك فكرة مجنونة وتقول مع نفسك لما لا اذهب لألقي نظرة على الروايات الشيعية لهذا الحدث.. رغم إنك تعرف تمام المعرفة من قراءتك السابقة انه لا امل معرفي يرجى منها.. ومع ذلك تستجمع ما تبقى عندك من حيادية وتقوم بهذه المخاطرة الفكرية.. تأخذ تاريخ اليعقوبي و"مقاتل الطالبيين" للأصفهاني كعينة.. وتجول فيهما وتتوقف امام باب خلافة الحسن.. فتجد عندهما ما كنت تخشاه.. فاليعقوبي والأصفهاني يقدمون لك نفس "طبخة الطبري" معمولة "بالبهارات" الشيعية.. نفس تناقض روايات الطبري زائد نظرية المؤامرة الكونية ضد الائمة والتي تشكل العمود الفقري للسببية الشيعية.. الائمة في هذه النظرية البليدة فكريا هم دائما ضحايا وغير مسؤولين تاريخيا.. أما معاوية فهو دائما هناك على الموعد.. مختفيا في زاوية مظلمة وملتحفا بدهائه الأسطوري لكي يكيد للأئمة.. ومعاوية في روايتي اليعقوبي والاصفهاني لا يشذ عن هذه القاعدة.. معاوية في روايتي اليعقوبي والاصفهاني يمتلك قدرات جني المصباح السحري!! فهو عند اليعقوبي: "يدس الى عسكر الحسن من يتحدث ان قيس ابن سعد قد صالح معاوية وصار معه، ويوجه الى عسكر قيس ابن سعد من يتحدث ان الحسن قد صالح معاوية، واجابة"!!!! وعندما يسمع الناس ذلك تحصل الفوضى الخ.. باختصار.. جيش الحسن في رواية اليعقوبي مكون من قرقوزات يتلاعب بها معاوية كما يريد.. يحرك معاوية اصابعه يمينا.. فيقف جيش الحسن "بالاستعداد" في ساحة العرضات.. يحرك معاوية اصابعه يسارا.. فيدخل جيش الحسن في حالة انذار وبالتالي في فوضى عارمة!! قدرة معاوية في "التثويل" المغناطيسي في الروايات الشيعية مذهلة!!
اما رواية الاصفهاني فتقول ان الحسن: " سار في عسكر عظيم وعده حسنة .... فنزل ساباط دون القنطرة"!! وهنا يخطب الحسن في جيشه: "الا وان ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة...... " فنظر الناس بعضهم الى بعض، وقالوا: ما ترونه، يريد(بمال)؟ قالوا: نظنه والله يريد ان يصالح معاوية ويسلم الامر اليه، فقالوا كفر والله الرجل ".. ثم تعم الفوضى ويتم سرقه أغراض الحسن وطعنه الخ.. وبعد بضعه اسطر يظهر "الجني "معاوية ليرشو قائد جيش الحسن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب "بألف الف درهم"...."فانسل عبيد الله ليلا، فدخل عسكر معاوية، فوفى له بما وعده .... الخ".
الشعور الذي انتابني وانا اغادر كتب الاصفهاني واليعقوبي.. هو نفس الشعور الذي كان يجتاحني في كل مرة كنت اخرج فيها من سينما سميراميس بعد نهاية فلم فنطازي.. ما ان اضع قدمي في شارع السعدون حتى افهم الهوة السحيقة بين عالم السينما وبين الواقع الذي كنت أعيش فيه !! فالسردية الشيعية عند الاصفهاني واليعقوبي لا تختلف في حبكتها الدرامية عن حكايات ألف وليله وليلة.. الشخصيات والأماكن والازمنة والاحداث تتطاير في فضاء خالي من قوانيين الجاذبية الانثروبولوجية والمنطقية!! وفي هذا الفضاء المقفر فكريا تقوم نظرية المؤامرة بشرح كل شيء!!
باختصار.. الفوضى المنطقية للروايات التي تتطرق لحدث انهيار خلافة الحسن وتضاربها لا يجاريها سوى فوضى "جيش" الحسن.. فهذه الروايات تقول الشيء ونقيضه.. فرواية تقول لك ان الحسن كان يريد قتال معاوية فيخذله "اهل العراق".. ورواية اخرى تقول لك ان "اهل العراق" كانوا يريدون قتال معاوية ولكن الحسن خذلهم بصلحه مع معاوية ولهذا السبب " انفروا ونهبوا سرادق الحسن، ونازعوه بساطا كان تحته "!! رواية تقول لك ان الفوضى حصلت بعد مبايعة الحسن مباشرة وبسبب خطبته التصالحية في الكوفة!! و رواية اخرى تقول لك ان الفوضى حصلت في معسكر الحسن في المدائن(او ساباط دون القنطرة!!!)!! رواية تقول لك ان الجيش "انفر" بسبب إشاعة مقتل قيس ابن سعد قائد الجيش.. ورواية اخرى تقول لك ان الجيش "انفر" لان "الجني" معاوية رشى قائد الجيش عبيد الله بن العباس "بألف الف درهم"!!! رواية تقول لك في بدايتها "لمّا بلغ أهل الكوفة بيعة الحسن أطاعوه وأحبّوه أشدّ من حبّهم لأبيه" ثم تصل الى نهايتها فتقرأ: " فوثب عليه أهلُ الكوفة وانتهبوا ماله، وحرّقوا سرادقه، وشتموه!!!! انتقال زئبقي من الطاعة والحب الشديد الى الشتم ومحاولة القتل بستة اسطر!!!
باختصار.. مكان الحدث متضارب.. زمان الحدث متضارب.. اسباب الفوضى متضاربة.. والاعداد كالعادة متضاربة!! ولكن الاعداد في هذا الحدث ليست ذات أهمية.. ويمكننا تجاوزها والعمل بنصيحة احد المختصين الايطاليين بالتاريخ الروماني حين يقرأ عند احد المؤرخين الرومان خبر يقول ان احد الموانئ الرومانية كان يستقبل كل يوم "عشرة الاف اسير"(لكي يعطي فكرة عن سطوة روما آنذاك) .. الباحث الإيطالي يعرف ان هذه الأرقام مستحقرة بالقوانين اللوجستية انذاك ولا يمكن تصديقها.. لهذا السبب يقول لك ان هذا العدد الفنطازي يعني فقط "عدد كبير" بعقلية وأسلوب ذلك الزمان.. وهذه الملاحظة البارعة يمكنك تطبيقها في كل مرة تصفعك في التاريخ الإسلامي عبارة "الف الف" او اعداد متضاربة ومبالغ فيها.. لأنها كتبت بعقلية وأسلوب ذلك الزمان.
وفقط عقلية ذلك الزمان تسمح لمؤرخ مثل الطبري بوضع رواية حصول الفوضى في المدائن بعد تجيّش الحسن لجيش لقتال معاوية.. جنبا الى جنب رواية حصول الفوضى في الكوفة بسبب خطبته التصالحية التي لم تعجب اهل الكوفة .. مئة وخمسون كيلومتر تقريبا هي المسافة الجغرافية بين مكان الروايتين.. نحن هنا امام "يانصيبية" جغرافية مذهلة في تحديد مكان الحدث / الفوضى.. وهذا يعطيك فكرة عن الضبابية التي كانت سائدة في الروايات التي كانت بين يدي الطبري حين كتب تاريخه بعد "ثلاث قرون" من الحدث.. وبالتالي الهشاشة المعرفية التي تنطوي عليها السردية السائدة اليوم بخصوص هذا الحدث والتي يشكل الطبري اهم مصادرها.
ما كتبته في هذا الموضوع تحول الى شبة أطروحة .. لذلك سأحاول نشره على شكل حلقات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق