في هذه الفترة من تاريخ العراق ستحدد بعض الكلمات مستقبل العراق لاجيال قادمة. لذلك فان التعريف بالكلمات شرح معانيها ومضامينها يكتسب اهمية كبيرة بسبب الاهمية السياسية التي تضاف الى البعد المعرفي البحت. ولشرح الكلمات فان التميز بين الكلمات والاشياء، بين الكلمات ومضامينها ، بين الفيدرالية ككلمة وبين الفيدرالية كواقع هي اسلم الطرق لان الكلمات تعطي معانيها داخل اطار ما قد يحملها الكثير او يفرغها محتواها التطبيقي.
ان اعتمادي في هذا المقال على التعريف المقارن للفيدرالية اضافة الى قراءة تطبيقية في واحدة من اهم الانظمة الفيدرالية في العالم وهي الفيدرالية السويسرية هما محاولة وصف وفهم قبل ان يكون حكما في قيمة الفيدرالية ، رغم انني واعي لاستحالة الفصل التام بين هذين المستويين في الاطار السياسي على الاقل. ان تعريف الشىء بنقيضه يحمل بعض الاحيان توضيحا اكبر للشىء المراد تعريفه وهي طريقة "تعليمية" اكثر فائدة . لذلك سابدأ بتعريف الكونفدرالية
الكونفيدرالية هي اتحاد دول ذات سيادة، أي يمتلك كل منها سيادتها المبنية على اساس تعاقدي. اما الفيدرالية فهي دولة سيادية مكونة من "دويلات" لايمتلكن سيادة. انها دولة قائمة على دستور. صحيح ان هذا الدستور تعاقدي في اصله لكن الدويلات المكونة للاتحاد الفيدرالي في حال تبنيه لايعودوا اطرافا في العقد بل يتحولوا الى رعايا لقانون مشترك اعلى. ان طبيعة العلاقة ستتحول من افقية بين اطراف متساوية في السيادة الى عامودية حيث تتخلى هذه الاطراف عن سيادتها لصالح المركز. ان السيادة هنا هي ذات طبيعة سياسية اكثر منها ادارية ذلك ان الفيدرالية هي مركزية سياسية ولكنها ايضا لامركزية ادارية اذ تتمتع الاطراف فيها بحرية ادارية كبيرة جدا في تسيير شؤونها المحلية ولكنها تترك الامور السيادية ذات الطابع السياسي العام الى المركز : مسائل الدفاع والعلاقات الخارجية مثلا . ان الفيدرالية ليست دولة مركزية لان الدستور يكفل للاطراف المكونة لها مكانة دستورية غير منقوصة
ومن اجل الابتعاد عن المفاهيم العامة والاقتراب اكثر من تجربة تاريخية اكثر تطبيقية سنتعرض هنا للمثال السويسري من الفيدرالية وهو ليس النظام الفيدرالي الوحيد ولكنه يُعد بنظر المختصيين من اهمها. تتكون الفيدرالية السويسرية من 26 مقاطعة قائمة على اساس جغرافي. ان كل مقاطعة تكون نظام سياسي مستقل نسبيا. ان مكونات هذا الاستقلال هي:
اولا. ان وجود المقاطعة مضمون بمعنى ان المشرع لايستطيع ان يلغي او يخلق المقاطعات كيفما شاء. ولتغيير عدد المقاطعات او ببساطة تغيير حدودها يجب ان يوافق السكان المعنيون.
ثانيا. ان المقاطعات تدير نفسها بشكل مستقل. بمعنى ان تسن لنفسها دستور، تخلق مؤسساتها، توزع سلطاتها، تحدد شروط ومضامين حقوق المواطنيين. ان القانون الفيدرالي لايشترط بهذا الخصوص سوى بعض القواعد الاساسيه التي تقتصر عمليا على فكره المساواة ومبداء الديمقراطية. ما عدا هاتيين القاعدتين فللمقاطعات كل الحق في التجديد والدليل على هذا هو الاختلافات الكبيرة بين الهندسة السياسية والحقوقية لكل منها. فنجد ان لكل مقاطعة نظامها التعليمي والضريبي والقضائي الخاص بها.
ثالثا ان المقاطعات تختار بصورة حرة سلطاتها ،كل سلطاتها الحكومية. بمعنى ان الحكومة الفيدرالية لاتفرض عليهم ممثليها كالمحافظ مثلا ولا تتدخل في اختيار نوابهم الى المجلس التشريعي الفيدرالي، ولا تستطيع حل برلماناتهم اوتقيل حكوماتهم.
رابعا ان المقاطعات غير خاضعة للمراقبة السياسية. ولكن هناك تدقيق في شرعيه افعال المقاطعات لانه بدون هذا التدقيق فان وحده البلاد قد تُهدد. ذلك ان القانون الفيدرالي سوف لن يفيد بشيء اذا وضع حيز التنفيذ في مقاطعات بواسطة قوانين تطبيقية او قرارات او احكام متضادة. لذلك فان الحكومه الفيدرالية قد وضعت نظاماً للتدقيق. مثلا ان دساتير المقاطعات تخضع لموافقة المجلس التشريعي الفيدرالي، وبعض القوانين تخضع لموافقة الحكومة الفيدرالية واغلب الاحكام والقرارات تقبل الاستئناف في المحكمة الفيدرالية. ومع ذلك فان هذا التدقيق يختلف عن المراقبة الجارية في الانظمة المركزية لانه ينطبق فقط على شرعية القوانيين وليس على الظرفية . بمعنى ان الحكومة الفيدرالية لا تستطيع على سبيل المثال ان ترفض قانون مقاطعة ما الا اذا بدا لها انه يتعارض مع القانون الفيدرالي ولكنها من جهه اخرى لاتستطيع رفضه لانها قد تجده ببساطة سيء او غير جيد.
خامسا ان المقاطعات تتمتع بصلاحيات كبيرة. كما ذكرنا سابقا ان المقاطعات تمارس كل الحقوق الغير معطاة قانونيا للسلطة الفيدرالية مما يعني انها تتمتع بصلاحيات تشريعية واسعة جدا. الاكثر من ذلك ان تنفيذ القوانين الفيدرالية مناط بالمقاطعات. واخيرا فالمقاطعات تتولى امور العدل وبشكل خاص عندما يتعلق الامر بالقانون المدني (الاحوال الشخصية) وقانون العقوبات تحت شرط التمييز في المحكمه الفيدرالية. ومع هذه الصلاحيات الواسعة فان المقاطعات تمتلك مواردها المالية الخاصة، فهي تسن قوانينها الضريبية وتجبي ظرائبها وهي تحصل على دعم من الحكومة الفيدرالية رغم محدوديته .
ان المقاطعات تشارك بصورة متساوية في تحديد الاراده الوطنية والتعبير عنها. ان المجلس التشريعي السويسري يتكون من مجلسين(مجلس المقاطعات الذي يمثل المقاطعات والمجلس الوطني الذي يمثل الشعب) او بما يسمى بالثنائية التامة حيث يتمتع المجلسين بنفس الصلاحيات .فكل مقاطعة، صغيرة كانت ام كبيرة، لها الحق في انتخاب ممثليين اثنين في مجلس المقاطعات. ان هذه "التقسيمة" لها مخلفات كبيرة على الفعالية السياسية السويسرية. ذلك ان قبول التصويت الشعبي العام (رفيراندم) او الاقتراح الشعبي (انيسياتيف) يقتضي ليس فقط اغلبية اصوات المواطنين بل ايضا اغلبية اصوات المقاطعات لقبول أي منهما. ان ذلك يعطينا فكرة عن القوة السياسية التي تتمتع بها المقاطعات وخصوصا الصغيرة منها. ان المقاطعات تشارك ايضا باشكال اخرى في القرار السياسي على المستوى الفيدرالي. اذ تمتلك المقاطعات حق تقديم اقتراحات للمجلس التشريعي، وهي تُستشار في كل ما يخص القوانين الفيدراليه قيد الدراسة، وعليهم ان يدلوا برأيهم قبل ان تتخذ سلطة فيدرالية ما بعض القرارات مثلا الموافقة على مكان بناء موقع نووي. كذلك فأن المقاطعات لها من يمثلها في لجان الخبراء التي تشكلها عادة الحكومة الفيدرالية.
ومع ذلك فيجب ان يقال ان الفيدرالية السويسرية لا تعطي مقاطعاتها سلطة سياسية بقدر تلك التي يعطيها الاتحاد الاوربي للدول الاعضاء او المانيا الاتحادية لمقاطعاتها حيث ان قرارات الحكومة المركزية في الحالتين الاخيرتين تعتمد مباشرة على موافقة الدول الاعضاء في الاتحاد الاوربي وعلى المقاطعات في حالة المانيا. والاكثر من هذا فأن القرارات في بعض الحقول يجب ان تتخذ باغلبية مطلقة او بأغلبية مؤهلة مما يخلق احيانا صعوبات كبيره في اتخاذ القرارات. ما يعني ان قرارات المقاطعات في نظام فدرالي ما قد يخلق فخاخ يصعب الخروج منها.
في سويسرا لاتوجد مثل هكذا فخاخ لان حكومات المقاطعات لاتشارك مباشرة باتخاذ القرارات على المستوى الفيدرالي وهم لايعملون بشرط الاغلبية المطلقة. ومع ذلك فهناك نوع من هذا الفخ في النظام الفيدرالي السويسري يؤدي الى نتائج لاترضي الجميع. ان المقاطعات السويسريه تختلف اختلافا كبيرا في اهميتها السكانية والاقتصادية مما يعني انه في حالة التصويت الدستوري فأن غالبية المقاطعات (وهو شرط قبول التصويت ـ الريفيراندم) لا تمثل بالضرورة اغلبية الشعب السويسري. وبهذا فأن غالبية ضئيلة نسبيا على مستوى المقاطعات تستطيع عرقلة حل تريده اغلبية الشعب. ان هذه النقطة تثيير مناقشات كثيرة في الوسط السياسي والاكاديمي والشعبي في سويسرا وهي لم تُحل بعد.
لكن علينا ان نعرف ان شرط اغلبية المقاطعات هذا يشكل تاريخيا حلآ سلميا وضمانا لحقوق الاقلية. ذلك ان الدولة الفيدرالية السويسرية الحديثة كانت قد تشكلت بعد انهيار الكونفدرالية القديمة ونشوب حرب اهلية قصيرة استمرت 26 يوما واحدثت اكثر من مئه قتيل، بين الراديكالين البروتستانت سكان المقاطعات الكبرى الداعين الى مركزية اكبر والمحافظين الكاثوليك سكان المقاطعات الصغيرة المدافعين عن الكونفدرالية التي تحفظ استقلاليتهم. لكن البروتستانت ورغم انتصارهم وتحت تأثير تجربة الحرب كانوا مستعدين لتقاسم السلطة مع الكاثوليك واعطاهم بعض التنازلات. ومن اكبر هذه التنازلات هو شرط اغلبية المقاطعات الى جانب اغلبية الشعب في التصويت الدستوري . ان هذا الشرط طمئن المقاطعات الصغيرة كأقلية عددية ومكنهم كاغلبية مقاطعاتية من ان يكونوا كابحا امام كل محاولة لمركزية اكبر تفرضها الاغلبية الشعبية. ثقافة التنازلات التوافقية هذه هي ما يميز الثقافة السياسية السويسرية منذ نشؤها وحتى الان . ان شهرة الفيدرالية السويسرية كنظام سياسي لم تأتي من فرادة موسساتها السياسية التي تاثرت في اغلبها بالمؤسسات الامريكية وخصوصا الفرنسية بعد تدخل نابليون، ولكنها تكمن في البراغماتية السياسية التي انتجت النظام السياسي الاكثر استقرارا في العالم.
اعتمدت في اعدادي لهذا المقال على كتاب هانزبيتر كريزي ، " النظام السياسي السويسري " ،دار نشر ايكونوميكا ، 1998
H. KRIESI , Le Système Politique Suisse, Economica, 1998.
العزيز كريمم
ردحذفاعتقد ان كل كلمة تكتبها هي ضمادة لوقف هذا النزيف الدموي.انني أحني رأسس احتراما لنبل مراميك واحسدك لقوة اللفة التعبيرية التي تستخدم .المأساة عميفة كما ترى و قلة هم يستعرون الماساة
هل أعزيك ؟ أم أعزي نفسي ؟
أشد على يدك واعتقد جازما ان التاريخ لا يرحم .
لك محبتي العراقية
مظهر كرموش
يونس الخشاب